الفصل الأول - على ذكراها نغنّي ..






قال لي : ماذا تريد أن تشرب ؟
شراب ساخن لقهوة داكنة اللون , لو سمحت .



ذلك كرمٌ معتاد من أستاذي المفضل , فأنا الآن في مكتب مرشدي الأكاديمي د.محسن عالم لإنهاء إجراءات المنظومة الجامعية و طباعة وثيقة التخرج بعد مواربة امتدت لسنين ستْ و ازدادت شهوراً عددا ...

في الوقت الذي وصل كوب القهوة , كنت قد اتخذت مكاني في مكتب " المرشد الأكاديمي " و فضلت أن أجلس قرب المطل , فمكتبه يُطل على حديقة نسميها مجازا بساحة العلَم مليئة بورود الجوري المنتشرة في جبال " الهدا " المرتفعة ..





في الحقيقة لا يوجد فيها علَم أقصد في الحديقة , و لكنّا أطلقنا تسميتها بذلك اللقب حينما احتفلنا في وسط الساحة بفريق " كرة اليد " بعد فوزهم في المباراة النهائية و حمله علَم البطولة ..




كعادته المعهودة يتحدث عن مستواي في الدرجات بمجاملة فضّة , ليكمل بعدها نصائح أبوية عن المستقبل و ان ذلك التخصص فيه الآمان الوظيفي و الرواتب المغرية ما تملأ به عينيك حتى غاب صوته عن مسامعي ( رغم أني أرى حركة شفائفه ) ..


أووووووههـ , صوت الطائرات الاستعراضية فوق المبنى تعيق وصول تلك الأصوات المتموجة و المهتمة بمستقبلي ,
دائما تذكرني صوت الطائرات تلك , باللحظة العارمة و الصورة العالقة في مخيلتي في مكتب البروفيسور Roger Wilber ...


حدث ذلك , في السنة الماضية في الرابع من نوفمبر حينما حطت طائرتي مدينة لوتسيرن في سويسرا لحضور مؤتمر جراحة العظام كأول مشاركة خارجية لي ..


و التي قابلت فيها البروفيسور Roger للمرة الثانية , دار بيننا حديث بسيط عن د. هاشم جراح العظام المشهور في جدة قبل أن يُعرفني على تلك الجالسة في المقعد المجاور و التي كانت تتكلم الألمانية بطلاقة لكن بلكنة خليجية واضحة ( تُبدل حرف ( Z ) بحروف ساكنة , ساحرة على نغمة " تساا " ... ) ..

قال الدكتور ممازحا : يبدو أن رمال أراضيكم جعلت من سقوف حناجركم قاسية , كقسية صحاريكم ..( لم أكن أعلم حينها أن صورتها ستكون جزء من مخيلتي ) ...




كانت  ..


كانت  ..  كانت


فجأة قاطع تفكيري المرشد , ليخبرني أن مادة الجراحة قد تم تقليص الدرجة إلى " +C " بلا سابق إنذار , لم أفكر ملياً لأطلب من المرشد الأكاديمي أن يتابع طباعة الورق ( و كأن أمرا لم يكن ) ..


دائما أشبه تلك المادة بجيش الاستعمار , فالمستعمر يحتل بلداً و وطنا و شعبا و يعتقد أنه قد فعل معروفا بهم ..
فكذلك من اتخذ قراراً بإجراء عملية ما , قبل أن يُشارك المريض في تقرير مصيره ..



بعد أن طبعت أوراقي , متوجها لبوابة الكلية , تذكرت سنيني الماضية حتى في تلك الخطوات التي سقطت فيها
 نتيجة إسراعي في المشي ..


لكن , ألا ينبغي عليّ أن أواري ناظري عن تلك  البنايات الرتيبة , كي لا أمر بتلك الساعات المملة ؟
ألا ينبغي علي أن أختفي من تلك الجدران الباردة , و من تلك الجثث الممتلئة في الممرات , كي لا أصاب بنزلة الصقيع البارد ؟


أم أشفق على خاطري رأفةً لأورام صقيعي : ( إن صقيع المعرفة سينتهي بأن يجمّده ) كما يقول زرادشت .
أم علي أن أتلثم كل ما هفّت علي تلك الأرواح الميتة أو كل ما انبعث منها رائحة الفورمالين الخانقة .


لم أعد أمميز بين تلك الروائح المتداخلة أو حتى لعطر فاخر من جيفينشي ,..
قبل أن أكمل فلسفتي الغير مفهومة .. إذا بحارس الأمن يرمقني بنظرات جافة من خلف نافذة السيارة و ينبهني بأن هذه هي المحطة الأخيرة !!



عفواً .... أقصد " الدقائق الأخيرة " قبل أن أغلق بوابة الكلية " , ( وداعاً ) هي آخر كلمة سمعتها قبل أن أغادر .. 



تعليقات

المشاركات الشائعة